شاب أسمر يحمل على وجهه كل الملامح المصرية الأصيلة، بعد 41 عامًا قضاها
مهاجرًا في أمريكا، تلمح بعضًا من اللهجة المصرية الصميمة بين حروفه..
يسمونه "الملك" رغم ما تشعر به في روحه من البساطة.. إنه د. فاروق
الباز.. مدير معهد أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأمريكية.. أبلغ ما قيل
عنه كان على لسان "ألفريد وردن" أحد رواد الفضاء في رحلة أبولّلو حينما
وصل إلى القمر: "بعد تدريبات الملك.. أشعر أنني جئت هنا من قبل".
كيف كانت البداية؟.. وما هي قفزة التحول؟.. وماذا يحمل د. فاروق في
أحلامه؟
البداية
وُلِد د. فاروق في الأول من يناير عام 1938م من أسرة بسيطة الحال في قرية
طوخ الأقلام من قرى السنبلاوين في محافظة الدقهلية، شجَّعه الوالدان على
التدرج في مراحل التعليم المختلفة، حيث كانا يؤمنان دائمًا بقدراته
ونبوغه.. كان والده أول من حصل على التعليم الأزهري في قريته.. وكانت أمه
رغم بساطتها عونًا له في اتخاذ قراراته المصيرية؛ حيث كانت تمتلك ذكاء
فطريًّا على حد وصف د. فاروق.
كانت أمنيته أن يكون طبيبًا جراحًا للمخ.. ولكن آماله باءت بالفشل حينما
لم يسمح له مجموعه الكلِّي بالالتحاق بكلية الطب؛ فاضطر بروح أقل حماسة إلى
الالتحاق بكلية العلوم – جامعة عين شمس – واختارها دون كلية طب الأسنان؛
لأنها كانت أقرب إلى مسكنه، ويستغرق المشي إليها ساعة ونصف، وهو ما
يساعده على عدم إهدار القروش في الذهاب إليها بالمواصلات العامة.. رغم
أنه كان يهوى منذ الصغر الذهاب إلى الرحلات الكشفية وجمع العيِّنات
الصخرية، فلم يسمع عن علم الجيولوجيا - منبع نبوغه - إلا حينما التحق
بكلية العلوم.
حصل على شهادة البكالوريوس (كيمياء - جيولوجيا) في عام 1958م، وقام
بتدريس مادة الجيولوجيا بجامعة أسيوط حتى عام 1960م، حينما حصل على منحة
لاستكمال دراسته بالولايات المتحدة. نال شهادة الماجستير في الجيولوجيا
عام 1961م من معهد علم المعادن بميسوري الأمريكية.. وحصل على عضوية فخرية
في إحدى الجمعيات الهامة (Sigma Xi) تقديرًا لجهوده في رسالة الماجستير،
نال شهادة الدكتوراة في عام 1964م وتخصَّص في التكنولوجيا الاقتصادية..
واستطاع خلال هذه الفترة زيارة المناجم الهامة، وجمع آلاف العيِّنات من بلاد
العالم التي زارها.
عودة إلى مصر
كانت عيون د. فاروق متجهة دائمًا إلى مصر طوال فترة إقامته بأمريكا. جمع
عيِّناته وأبحاثه ورجع إلى بلاده، وكلُّه أمل في إنشاء معهد عالٍ للجيولوجيا
في بلده الحبيب.. إلا أن المفاجأة كانت في انتظاره.. "عليك استلام عمل
كمدرس للكيمياء في المعهد العالي بالسويس"، هكذا بكل بساطة بعد ثمانية
أعوام في دراسة الجيولوجيا يدرِّس الكيمياء في معهد لم يسمع عنه من قبل.
رغم صدمته واندهاشه، لم يفقد الأمل.. وانطلق إلى المسؤولين بالوزارة لكي
يسمعه أحد، ولكن جهوده باءت بالفشل بعد ثلاثة أشهر من المثابرة.. واضطر
إلى الذهاب لاستلام عمله في هذا المعهد الغامض؛ أملاً منه في أن يسمعه أحد
بعد استلام وظيفته الجديدة.
ولكنه تقابل هناك قَدَرًا بصديق جعله الله سببًا لتغيير مسار حياته، التقى
بأحد زملائه الفيزيائيين، وكان حاصلاً على الهندسة النووية من روسيا، واضطر
إلى تدريس مادة الصوت والضوء، حيث نصحه بعدم استلام عمله حتى لا يفقد كل
شيء.. فاحتال د. فاروق وسحب أوراقه بعد دقائق من تقديمها إلى إدارة
المعهد.
في طريقه إلى الهجرة
"لم أتخيل يومًا أن أهاجر بعيدًا عن بلدي".. قالها د. الباز وهو يحكي قصة
هجرته؛ ففي ديسمبر من عام 1966م وبعد سنة من المعاناة، قرَّر أن يسافر سرًّا
إلى أمريكا؛ خوفًا من الظروف السياسية الشائكة التي كانت في مصر آنذاك.
وهناك بدأ في رحلة شاقة للبحث عن عمل، ونظرًا لوصوله بعد بدء العام
الدراسي، فلم تقبله أي جامعة من الجامعات؛ فأخذ يبعث طلبات التحاق إلى
الشركات جاوزت المائة في عددها، إلى أن بعثت له "ناسا" التي كانت تطلب
جيولوجيين متخصصين في القمر الموافقة وسط دهشة د. فاروق.
والعجيب أنه لم يكن يعلم شيئًا عن جيولوجيا القمر، ودخل ناسا وهو لا يعلم
أنه سيكون له فيها شأن. وقد وفَّقه الله إلى أحد المؤتمرات الجيولوجية والتي
تحدَّث فيها علماء القمر عن فوَّهاته ومنخفضاته وجباله. لم يفهم شيئًا، وهو
ما قيل طيلة ثلاثة أيام متواصلة، وحينما سأل أحد الجالسين عن كتاب يجمع
هذه التضاريس، أجابه قائلاً: "لا حاجة لنا إلى أي كتاب فنحن نعرف كل شيء
عنه".. حرَّكته الإجابة إلى البحث والمعرفة، ودخل المكتبة التي ضجَّت بالصور
القمرية التي يعلوها التراب، وعكف على دراسة 4322 صورة طيلة ثلاثة أشهر
كاملة، وتوصل إلى معلومات متميزة.
قفزة التحول
اكتشف د. الباز أن هناك ما يقرب من 16 مكانًا يصلح للهبوط فوق القمر، وفي
المؤتمر الثاني الذي حضره. كان د. الباز على المنصَّة يعرض ما توصَّل إليه
وسط تساؤل الحاضرين عن ماهيته، حتى إن العالِم الذي قال له من قبل نحن
نعرف كل شيء عن القمر قام وقال: "اكتشفت الآن أننا كنا لا نعرف شيئًا عن
القمر".
دخل الباز تاريخ ناسا، وأوكلت له مهمتين رئيسيتين في أول رحلة لهبوط
الإنسان على سطح القمر: الأولى هي اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر،
والثانية تدريب طاقم روَّاد الفضاء على وصف القمر بطريقة جيولوجية علمية،
وجمع العيِّنات المطلوبة، وتصويره بالأجهزة الحديثة المصاحبة.
تقديرًا لأستاذه؛ بعث "نيل آرمسترونج" برسالة إلى الأرض باللغة العربية،
واصطحب معه ورقة مكتوب عليها سورة الفاتحة ودعاء من د. فاروق تيمنًا منه
بالنجاح والتوفيق.
انطلاقة د. الباز
بانطلاق أبوللو ونجاح مهمته سطع نجم د. فاروق الباز، بعد مشاركته فيه من
عام 1967م إلى 1972م، وبدأ اسمه يأخذ مكانًا في الصحافة العلمية
والتلفزيون الأمريكي.